هناك من تكهن بأن مسيرة الفيل قد تنتهي هنا ، في بحرلاس روساس . إما لأن سقالة الدخول للمركب ، العاجزة عن تحمل وزن أربعة أطنان ، قد تتهشم أو لأن هزات الموج للقوية ستفقد الفيل توازنه فتلقي برأسه في الهاوية ، لا بد أنها قد حانت الساعة ... الأخيرة لسالمون السعيد والقديم الذي عمّدوه بكل حزن باسم وحشي ، سليمان . لم يرَ أغلب النبلاء الذين ذهبوا إلى روساس لتوديع الأرشيدوق ، فيلاً من قبل ، ولا حتى في لوحة . لا يدرون أن حيواناً من هذه ، خاصة لو سافر في أية فترة من حياته , لديه ما اعتادوا أن يسموه قدماً بحرية ، فلا يطلب منه المساعدة في مناورة ، ولا الصعود إلى السواري لإنزال الشرعة ، ولا قيادة الثُمْنية والسوسية ، لكن ضعوه أمام الدفة سترونه راسخاً فوق أوتاد غليظة تتصنع أنها رِجلان ، ثم مُروا بهبوب ريح عاتية . سترون كيف يواجه الفيل هذه الرياح المضادة ، مبحراً في تجاهها بأناقة وفعالية طيّار من الدرجة الأولى ، كأن هذا الفن من ضمن كتب الفيدا الأربعة التي تعلمها بالذاكرة في طفولته الأكثر رقة والتي لا تُنسى أبداً ، حتى عندما قررت أقدار الحياة أن يكسب خبزه الحزين كل يوم بنقل جذوع الأشجار من جانب لآخر أو محتملاً الفضول الأبله لهواة عروض السرك منحطة المستوى . الناس مخطئون جداً في فهم الفيلة ، يظنون أنها تتسلى عندما تجبر على حفظ توازنها فوق كرة معدنية في مسطح صغير ومائل ، تجد فيه بالكاد مكاناً لأرجلها تتكئ عليه .... استقر سليمان في مكان ما بسطح المركب محاطاً بسياج ، رغم صرامة تركيبته يؤدي وظيفة رمزية أكثر منها واقعية ، إذ أنه سيتوقف دائماً على مزاج الحيوان الشارد ، فيما راح فرتيس يبحث عن أخبار . أولها وأوضحها لا بد أنها الإجابة عن سؤال : إلى أي ميناء يتجه هذا المركب ، سأل بحاراً كبير السن ، له وجه رجل طيب ، وتلقى منه أكثر الإجابات سرعة وإيجازاً وإيضاحاً : إلى جنوة . واين تقع هذه ، سأل الفيّال . كان يبدو على الرجل صعوبة أن يفهم كيف من الممكن أن يجهل أحد في هذا العالم أين تقع جنوة ، لكنه شعر بسرور وهو يشير ناحية الشرق ويقول ، من هذا الجانب . تقصد أنها تقع في إيطاليا . أسرع فرنسيس الذي ما زالت معارفه الجغرافية القليلة تسمح له بتمييز بعض الملامح . نعم في إيطاليا ، أكبر البحار ، وأين تقع فيينا ، ألح فرنسيس . أعلى منها بكثير ، أبعد من مرتفعات الألب . ما مرتفعات الألب ؟ جبال شاهقة ، هائلة ، صعبة الإجتياز خاصة في الشتاء ، لا ، لم أمر من هناك أبداً لكنني سمعت سمعت المسافرين يقولون أنهم ساروا في هذه الأماكن . لو كان الأمر كذلك سيمر سالومون المسكين ببلبلة كبيرة ، إذ جاء من الهند الأرض الحارة ، ولم يعرف إطلاقاً معنى البرد القارص ، وأنا مثله ، فأنا طبت من هناك . مَن سالومون ، سأل البحار ، سالومون كان إسم الفيل من قبل أن يسموه سليمان ، نفس الشيء حدث لي ، فقد كنت سوبهرو منذ جئت لهذا العالم والآن صرت فرنسيس . من غيّر لكما إسميكما . من لديه السلطة ليفعل ذلك ، سمّو الأرشيدوق الراكب في هذا المركب .. أنا وسالمون قضينا سنتين في البرتغال .. والآن في طريقنا إلى فيينا .. بدأت الخطوة الأولى لمسيرة الفيل الغريبة من داخل القصر البرتغالي ، واتجهت صوب النمسا ، ليكون بمثابة هدية من ملك البرتغال والجرابيين قادرة على إرضاء ماكسيميلينانو أرشيدوق النمسا الذي صار قريباً من البرتغال في بلد الوليد ، كحاكم على إسبانيا ، وعلى قاب قوسين أو أدنى منها .. لم يكن أحد ليدري أن هذا الفيل .. الهدية سيصير أداة سياسية من الطراز الأول لأرشيدوق فيينا .. عند الوصول إلى باب الكنيسة المعظمة .. وأمام حشد من الشهود الذين سيشهدون مستقبلاً بالمعجزة ، ثنى الفيل ركبتيه مطيعاً .. ركبتيه وليست ركبة واحدة يملأ بها الرضا روح المتدين الذي جاء بطلبه وإنما الإثنتين راكعاً هكذا أمام جلالة الرب في السماء ، وجلالة ممثليه في الأرض . تلقى سليمان في المقابل رشة كريمة من الماء المقدس .. بينما ركع الحضور جماعة واهتزت مومياء سان أنطونيو في منصتها التابوتيه .. تتداعى الأحداث معلنة تلك الفتنة الدينية التي ما زالت تعبث في مصير الشعوب دون استثناء .. هي تأخذ في الظاهر أسباباً دينية .. بينما يدرك المتمرس في أن وراء ذلك كله إنما تقف دوافع سياسية بكل تأكيد . بدأت الخطوة الأولى لمسيرة الفيل الغريبة، التي ننوي حكايتها، من داخل القصر البرتغالي واتجهت صوب النمسا، وكان ذلك تقريباً عند ساعة التوجه للسرير، رغم تعارض ذلك مع رأي من لا يعرف أهمية الغرف في حسن سير الإدارات العامة، سواء كانت غرفاً مقدسة أم علمانية أم غير منتظمة الشكل. يتحتم علينا أن ندوّن أنه ليس محض صدفة أن نستخدم هنا هذه الكلمة غير المحددة تقريباً ، إذ هكذا سنبقى معفيين، بأناقة ظاهرة، من الدخول في تفاصيل ذات طابع فيزيائي وفسيولوجي صلب بعض الشيء ومضحك في أغلب الوقت.